🔗 حان وقت جلد الذات: العيادات الميدانية

-

ان الظهور التلقائي والتطوعي للعيادات الميدانية في الميادين والشوارع بوسط البلد من أكثر المشاهد ارتباطا بالثورة. فهؤلاء هم في النهاية مجموعة من الأطباء المتطوعين الساهرين في اكثر المناطق خطورة يستنشقون جميع أنواع الغازات، يتعرضون لضغط نفسي وعصبي غير عادي بل ويصلهم في بعض الأحيان قدرا لا بأس به من الرصاص والعنف وامتهان الكرامة وتشويه السمعة.

هذا وقد يعتبر الطبيب الشاب علاء عبد الهادي خير مثال علي التضحيات التي قام بها هؤلاء الأطباء الشجعان سواء كان ذلك دفاعا عن فكر أو موقف أو عقيدة، أو مجرد لأداء مهمة إنسانية.

ولكن الوقت قد يكون حان لبعضا من الإنصاف والمراجعة لعمل العيادات الميدانية ومدي نجاحها في تحقيق هدفها الأساسي: صحة المواطنين المصريين.

في الثمانية عشر يوما الأولي من الثورة ونظرا للأعداد الغفيرة من المواطنين المترددين علي الميدان، أصبح المستشفي الميداني نقطة خدمة سريعة وأسعاف طارئ لحالات الإغماءات والاختناقات في الأيام عادية والإصابات بالحجارة والرصاص في أيام العنف. كان يقوم علي العمل في هذه المستشفيات مجموعة من الأطباء ذوي الخبرة الكاملة في التعامل مع تلك الطوارئ وفي توظيف الموراد البشرية من المتطوعين الشبان من الأطباء. في هذا الوقت من الثورة كان لتلك المستشفيات دورا محوريا وذلك للغياب الفاجر لخدمات الإسعاف والعيادات المتنقلة بالإضافة لما قامت به وزارة الصحة في هذا الوقت من كذب متعمد في أعداد الضحايا والمصابين واستغلال سيارات الإسعاف لقمع الثورة والثوار. ذلك كله جعل لتلك المستشفيات دورا حيويا في هذا العمل.

في الشهور التالية، بدأت خدمات الإسعاف في العمل بصورة أفضل كما بدأ المسعفون في استيعاب المسئولية الحيوية الملقاه علي عاتقهم. ومع الوقت بدأ الاحتياج للمستشفيات الميدانية الكبيرة يقل. اتجه الأطباء ذوي الخبرة والقدرات العلمية إلي مستشفيات حقيقية يستطيعون من خلالها تقديم خدمة طبية أفضل وأنسب لهؤلاء المصابين الجدد.

ومع تطور الأحداث وتكرار الاشتباكات اقتصر التواجد النادر للأطباء ذوي الخبرة في المستشفيات الميدانية الأساسية ككنيسة قصر الدوبارة والتي حظيت بالتعاون الإنساني الجليل للقس والطبيب سامح موريس.

ولكن إنسحاب الأطباء المتمرسين من المشهد لم يعني اختفاء المستشفيات أو العيادات الميدانية. علي العكس تماما: فقد استمرت المستشفيات بل وظهرت العشرات من العيادات الميدانية الجديدة في الشوارع المختلفة خصوصا مع أحداث محمد محمود ووزارة الداخلية. عيادات ميدانية متنقلة هدفها الاسعاف الفوري للمصابين وطلب الإسعاف للحالات الحرجة. وهنا أطرح سبعة أسئلة واضحة وصريحة حان وقت طرحها :

السؤال الأول: من يرتدي البالطو؟

قد يبدو هذا السؤال طريفا بعد الشيئ ولكن، معلومة: ليس كل من ارتدي بالطو أبيض طبيبا وليس كل طالب طب قادر علي تقديم العلاج.

هل قام أي شخص بالتحقق من شخصية أي من قام بارتداء بالطو وقام بالأمر والنهي في العيادة الميدانية؟ هل يعلم المصاب إذا كان من يقوم بخياطة جرح بوجهه دون تعقيم أومخدر جراحا، طبيبا لأمراض النساء أو الأسنان، بيطريا، طالبا في سنة أولي، مضطربا نفسيا يقوم بتجربة طريقة من اختراعه لخياطة الجروح؟

هل يحق لطالب الطب أن يقوم بدور الطبيب دون إشراف ودون تحمل أي مسئولية تجاه ما يقوم به علي المريض؟

وهل تشفع الفوضي العامة في الموقف والضمير الحي والرغبة الحقيقية لهؤلاء في الخدمة العامة عن مراعاة هذا الخلل التام في تحمل المسئولية؟

السؤال الثاني: أين التمريض؟

الغالبية العظمي مما يقوم به الأطباء في العيادات الميدانية هو عمل تمريضي من الدرجة الأولي. عمل لا يقوم به الأطباء عامة. ولكن ما تفسير تواجد هذه الأعداد الغفيرة من الأطباء وطلاب الطب المتطوعين مع الغياب الكامل والفاضح لممرض أو ممرضة واحدة طوال هذه الفترة!! أين ذهبوا؟ هل من المعقول أن يكونوا جميعا ضد الثورة؟ هل انعدم الإحساس بالمسئولية الأنسانية بالكامل عند هذه الشريحة المهنية؟ قطعا الإجابة لا. والأهم من ذلك: هل من الطبيعي أن يكون هذا المقال المرة الأولي التي يطرح بها هذا التساؤل؟

هذا يعكس ببساطة إحساسا وعقيدة مفجعة لدي قطاع الأطباء بعدم أهمية مهنة التمريض بالكامل واقتناع الممرضين والممرضات بعدم الحاجة لهم من الأساس. وهذا في رأيي هو من الأسباب الأساسية لضعف وفوضي الخدمة المقدمة في تلك العيادات الميدانية: التكبر والنظرة الفوقية الغير مبررة بالمرة لمعظم الأطباء تجاه مهنة التمريض. الإقصاء المستمر لمن يمتلكون العلم والخبرة الحقيقية في العناية بالمرضي وتنظيم الرعاية. فوضي كاملة لأنه ببساطة لا مكان للعنصر الأساسي في الإسعافات الأولية للكوارث: التمريض.

السؤال الثالث: ما مدي الإسهام الفعلي لما قامت به العيادات الميدانية علي صحة المتظاهرين؟

لا يوجد أي مؤشر حقيقي عن مدي المنفعة الحقيقية مما قدمته العيادات الميدانية علي صحة المصابين. أظن إنه لا يصح لنا أن نستمر في عمل نحن لا نعلم إذا كان يساهم إيجابا في تحسن حالة المصاب أم لا. والأسوأ من ذلك: هل يدري أحد إذا كان عمل العيادات الميدانية الغير منظمة يقدم ضررا للمريض اكثر من النفع الذي يقدمه؟

هذا الضرر لا يقتصر علي مجرد التدخل الطبي الخاطئ فقط ولكنه يشمل أيضا مجرد تسميته “رعاية صحية”. فمجرد الذهاب إلي “طبيب” والسماع إلي “تشخيص ما” قد يؤدي هذا إلي إقتناع المصاب بما قاله “مرتدي البالطو” وعدم السعي لكشف طبي اخر فيما بعد. وهذا كفيل بالتسبب في ضرر بالغ للمصاب بسبب تشخيص متسرع أوغير دقيق لحالته. تلك مشكلة حقيقية في الحوادث مثلا. فكلمة “إنت كويس. كله تمام.” لشخص بعد حادث قد يمنعه من الذهاب إلي مستشفي مما قد يتسبب في وفاته لعدم تلقيه لفحص طبي كامل ومنظم. فالسؤال هنا: “هل تساعد العيادات الميدانية حقيقة؟ أم تقتل؟”

السؤال الرابع: هل تعفو طبيعة العمل التطوعية والتضحيات التي يقوم بها الأطباء والطلاب عن المسئولية المهنية والأخلاقية تجاه القاعدةالأولي في الطب “لا ضرر”؟

أهم ما يتعلمه الطبيب وأهم ما يقسم عليه هو مبدأ منع الضرر. فهل يصح لنا أن نغفل متعمدين عن هذا المبدأ بمجرد أن “كل واحد بيعمل اللي يقدر عليه”؟ هل يجوز أن ننجرف في سلسة من التدخلات الطبية التي قد تكون غير كافية بل وقد تلحق ضررا بالمصاب لمجرد سلامة نوايانا؟

أسأل سؤالا مؤلما وتراچيديا من الدرجة الأولي: كم إنسان أصيب بشلل تام أو لم يتم إنقاذه من الموت بسبب نوايانا الحسنة في إنقاذه السريع وحمله بصورة غير مناسبة؟ كم من المصابين قد تكون أصابتهم مستديمة الان لتسرعنا بنقلهم علي دراجة بخارية بدلا من الهدوء لدقائق وإنتظار الإسعاف لحمله بالشكل السليم؟

هل تشفع لنا صدمتنا ورغبتنا الخالصة في سرعة أسعاف مصابينا عن ما قد نكون تسببنا فيه من أذي مضاف لهم؟

السؤال الخامس: هل يعتبر الغياب الكامل للرقابة الرسمية علي الخدمة الطبية المقدمة في العيادات الميدانية ذريعة لغياب الرقابة الشعبية والشخصية عليها؟

لا خلاف عن الغياب الكامل والمشين لأي صورة من العمل الرقابي والتنظيمي للسلطات الطبية في ما يخص مستوي الخدمة الطبية في المستشفيات عامة وبالأخص في المستشفيات التابعة لتلك السلطات. وبالتالي فإنه من المتوقع بلا شك الغياب الكامل لهذا الدور الهام في عمل العيادات والمستشفيات الميدانية. لكن هذا الغياب لا يجب أن يعني بالضرورة غياب الرقابة الداخلية علي جودة ومقدمي الخدمة الطبية. حان الوقت لنستوعب أن الفشل الإداري الذريع من السلطات سيستمر لبعض الوقت في جميع القطاعات. وبالتالي فإن ظهور وتفعيل رقابة داخلية وشعبية أصبح أكثر من حاجة ملحة. أصبح مسئولية علينا جميعا كل في مجاله.

السؤال السادس: تعود الطلاب والأطباء علي تجربة كل ماهو “جديد” علي مرضي المستشفيات التعليمية ، هل أصبح هذا أسلوب حياة يتبعونه خارج المستشفيات الجامعية كذلك؟ حتي دون علم وموافقة المرضي أو إشراف أو تقدير خطورة الحالات ؟

كيف تناسينا طبيعة مترددي العيادات الميدانية وسمحنا لأنفسنا بالتعلم والتجربة عليهم؟ متي نسينا أن “محاضرة العملي” بكليات الطب يشرف عليها أطباء متخصصين لن يسمحوا بأي إحتمالية ضرر للمريض؟ ومتي سمحنا لأنفسنا بإشباع فضولنا في تعلم وتجربة كل ماهو جديد ومثير علي مرضانا بدون أي مراجعة أو تأنيب ضمير.

هل وصلنا لدرجة تجربة التنويم المغناطيسي علي مصابينا في الثورة؟؟؟

السؤال السابع: هل حان الوقت لتنظيم العمل بالعيادات الميدانية تنظيما ذاتيا متكاملا يحقق نتائج طبية لائقة دون أن تتحول إلي حقل تجارب لكل من تمكن من الحصول علي بالطو؟

أترك لكم الإجابة !

Written by: Ayman Sabae on March 27, 2012.