الطب النفسي والسياسة والدعاية الحكومية
.تحذير! التدوينة قديمة جداً وقد تحتوي على معلومات أو أراء لم تعد دقيقة أو محرجة
مقالي عن قيام بعض الأطباء النفسيين بتشخيص سياسين من عن بعد ومشكلة فحص المرشحين الرئاسيين نفسيا (نشر في مدى مصر)
ترجمة عايدة سيف الدولة
أشعر بالتوتر حين أرى أطباء نفسيين، بعضهم علمني المهنة، يستخدمون وصمة المرض النفسي ليوجهوا الضربات لمعارضيهم السياسيين بدلا من استخدام معارفهم الاجتماعية والعلمية لتثقيف الناس بشأن الصحة النفسية والدعوة إلى عدم التمييز.
خلال السنوات الأربع الماضية، دأبت القنوات على دعوة مشاهير الطب النفسي للمشاركة في البرامج التليفزيونية الحوارية لمناقشة كل شيء ما عدا الصحة النفسية، ولكن باستخدام مفردات ولغة الصحة النفسية. طُلب منهم التعليق على الشئون الجارية وسلوك بعض السياسيين أو المجموعات السياسية. وفي سياق الاستقطاب السياسي العميق في مصر جاءت كثير من تعليقاتهم لتكشف انحيازهم السياسي وغياب المهنية العلمية.
الأسوأ من ذلك أن بعض الأطباء النفسيين المؤثرين في الرأي العام اقترحوا ودافعوا عن سياسات كارثية باستخدام تفسيرات نفسية تفتقر إلى أي دليل، ومن ثم دعموا الهجوم على الفضاء السياسي والمزيد من الخنق لمطالب الحكم الديمقراطي.
تحليل الشخصيات السياسية
في أكتوبر 2013 طُلب من الطبيب النفسي أحمد جمال ماضي أبو العزائم في أحد البرامج الصباحية على قناة أون تي في أن يحلل شخصية الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، فقال أبو العزائم إنه استخلص من نبرة صوت السيسي في أحد خطاباته وما بدا من عدم اهتمامه بالتصفيق أنه شخصية تمتاز بالصدق والتواضع والورع.
وبعد حالة اعتداء جنسي عنيف لاقت الكثير من التغطية الإعلامية أثناء الاحتفال بصعود السيسي إلى السلطة في صيف 2014، قال محمد عبد الفتاح، الطبيب النفسي بجامعة الأزهر وأكاديمية الشرطة، إن السيسي حين قام بزيارة الناجية من الاعتداء في المستشفى كان يقوم بدور الطبيب النفسي في التخفيف عن الضحية.
وأثناء إحدى زيارات السيسي لروسيا، أكد الطبيب النفسي هاشم بحري للمصريين أن الرئيس شخص تحركه مصالح بلاده.
هناك كذلك أحمد عكاشه، الرئيس السابق للجمعية العالمية للطب النفسي وأكثر الأطباء النفسيين المصريين شهرة وتأثيراً، الذي أعلن الأسبوع الماضي أن المزاج العام والصحة النفسية للمصريين تحسنت منذ وصول السيسي إلى سدة الحكم. وأعزى عكاشه ثقة الرأي العام في الرئيس إلى مصداقيته وتحمله للمسئولية والمثابرة والاستعداد للتضحية والعمل بروح الفريق، مؤكداً أن تلك صفات يتمتع بها الجيش المصري.
أحمد عكاشه
أما الأطباء النفسيون المتعاطفون مع الإخوان المسلمين فيرون الأمور بشكل مختلف. الدكتور مصطفى محمود شخّص السيسي بأنه يعاني من اضطراب الشخصية الضد اجتماعية (السيكوباتية)، ووصفه بأنه مصاب بجنون العظمة، بعد أن استمع إلى تسجيل مسرب للرئيس لم يتم التحقق بشكل مستقل من صحته.
مصطفى محمود
وقد كان للرئيس السابق محمد مرسي أيضا نصيبه من التوصيف النفسي على شاشة التليفزيون. في فبراير 2014 قال أمجد خيري أن مرسي يعيش حالة من الإنكار وأنه يعاني من "لزوجة" في الشخصية نتيجة إصابته بالصرع. تعليق خيري يجعلنا نتساءل عن كيفية معرفته بحالة مرسي وإذا كان من حقه أخلاقياً أن يكشف عن مثل هذه المعلومات. وعلى نفس الدرجة من الأهمية يبرز السؤال: لماذا يصر على وصم المرضى المصابين بالصرع؟
في نفس الوقت أكد طبيب نفسي على قناة الجزيرة مباشر أن شخصية مرسي بدت متماسكة وهادئة وحازمة أثناء ظهوره في إحدى جلسات المحكمة، وأنه استخلص ذلك من الطريقة التي ربط بها مرسي أزرار سترته. على حين رأى طبيب آخر شاهد فيديو المحاكمة ذاته أن ابتسامة مرسي وموقفه الحازم يدلان على حالة من القلق الداخلي.
بعد عزل مرسي اقترح عكاشه توقيع الكشف النفسي على المرشحين للرئاسة، مؤكداً أن ذلك كان منوطاً به أن ينقذ مصر من رئاسة مرسي، وأرجع أوجه القصور في فترة رئاسة مرسي، التي لم تكتمل، إلى خلل في وظائف الفص الدماغي الأمامي نتيجة لجراحة في المخ. والفص الأمامي، بحسب عكاشه، مسئول عن الضمير والمروءة والأخلاق.
إلا أن عكاشه يدرك الإشكالية الأخلاقية في تعليقاته. ففي مقابلة مع جريدة الشرق الأوسط في عام 2011 قال أن أخلاقيات الطب النفسي تمنعه من "التحليل المهني لأي شخصية عامة أو سياسية دون القيام بالاختبارات والفحوص النفسية والتي تخضع لسرية العلاقة بين الطبيب والمريض". وأضاف أنه حين قام بتحليل ظهور الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك في المحكمة فقد فعل ذلك بصفته "خبيرا في السلوك الإنساني". من المفارقات أن مرسي، أثناء فترة ولايته، كرم عكاشه بنوط النيل للإنجاز العلمي.
تحققت رغبات عكاشة في عام 2014، حين أدخل الرئيس المؤقت عدلي منصور شرطاً للترشح للرئاسة بأن يخضع المرشحون للكشف الجسدي والنفسي لتحديد استعدادهم للقيام بدور رئاسة الجمهورية. إلا أن الشرط لم يوضح الصفات أو الشروط المرغوب فيها، ولا الطرف المنوط به القيام بالفحص، ومن ثم أوكلت لجنة الانتخابات الرئاسية مهمة الكشف على المرشحين إلى الإدارة العامة للمجالس الطبية المتخصصة التي تديرها وزارة الصحة. فوقع اختيار الإدارة على عكاشه لفحص المرشحين، بمن فيهم السيسي. وقام عكاشه بتوقيع الفحص بالاشتراك مع آخرين من العاملين معه في مستشفاه الخاصة. بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية عين السيسي عكاشه ضمن لجنة مستشاريه العلميين.
عكاشه يقوم بفحص إحدى المتقدمات بالاشتراك مع رئيسة وحدة علم النفس الإكلينيكي بمستشفاه الخاص (من موقع المجالس الطبية المتخصصة) (Courtesy SMC website )
لم تعلن المجالس الطبية المتخصصة عن عدد المرشحين الذين رُفضوا، إلا أن واحدا فقط من المرشحين أكد أنه رُفض على صفحته على الفيسبوك.
غير أن عكاشه في هذه الأثناء رفض فكرة فحص المرشحين للانتخابات البرلمانية القادمة، مصرحا- ويا للعجب- بأن الكشف الطبي على المرشحين للبرلمان "أمر غير طبيعي ولا يحدث في أي دولة فى العالم".
بعض الأطباء النفسيين يرفضون فكرة فحص المرشحين للرئاسة والبرلمان على أساس أن الطب النفسي لا يستطيع التنبؤ بمشاكل الصحة النفسية التي قد تحدث في المستقبل، ويرون أن يقظة الرأي العام أثناء فترة الحملات الانتخابية يجب أن تكون كافية، ويضيفون أن الأطباء النفسيين كثيرا ما يختلفون في آرائهم الشخصية بشأن التشخيص.
هذا الشرط، بضرورة الفحص النفسي للمرشحين الرئاسيين والبرلمانيين، ينزع عن الناس إمكانية الاختيار الديمقراطي لمن يرونه قادراً على خدمتهم.
لكن الأطباء النفسيين ليسوا جميعا على نفس النهج، حيث لديّ زملاء يرفضون عقد مقابلات مع الإعلام، كما اعترض العديد من الممارسين المهنيين على إقحام مهنتهم في الدعاية السياسية.
حين قامت المحكمة العسكرية بتحويل الناشط مايكل نبيل إلى مستشفى العباسية، أصدر العاملون بالمستشفى بيانا انتقدوا فيه، على أسس أخلاقية ومهنية، تحويل السجناء السياسيين إلى مؤسسات الصحة النفسية.
التحليل النفسي للمجموعات السياسية
أحد الصحفيين بجريدة الأهرام المملوكة للدولة طلب من أبو العزائم أن يعلق على شخصية الإخوان المسلمين، وقد أجاب بأن ذهنية الجماعة تتسم بالحفظ والطاعة العمياء، وأضاف أن طريقتهم في العمل السري تعزلهم عن العالم الخارجي. وادعى أبو العزائم أنه لا يستطيع مجادلتهم أو تغيير مواقفهم بالمنطق لأنهم يتعاملون مع الخيال باعتباره الحقيقة المطلقة.
زعم أبو العزائم وجود فجوة كبيرة في التنظيم بين القيادة وباقي الأعضاء، الذين قال إنهم لا يعرفون شيئا وإنهم يعيشون على أوهام تضعهم في مواجهة المجتمع وتعطيهم شعورا بالعظمة والسيادة على العالم. ثم أضاف مؤكدا أن جماعة الإخوان المسلمين تجند أنصاف مثقفين متدينين سهلي الانقياد لرؤية الجماعة المشوهة للعالم.
الجريدة نفسها نقلت عن طبيبة نفسية أخرى قولها إن الإخوان المسلمين يتجنبون من يستخدمون عقولهم ويلعبون على مشاعر الفقراء من خلال اختيار قيادات ذات صوت عال.
هؤلاء المهنيون استخدموا مفردات الطب النفسي لإضفاء مشروعية علمية على التصوير غير الإنساني للإخوان المسلمين بأنهم "خرفان".
في صيف عام 2013، تقدم طبيبان نفسيان باقتراحات لكيفية إنهاء اعتصام رابعة الموالي لمرسي، فانضموا بذلك إلى صفوف الخبراء الأمنيين باقتراح أساليب مختلفة لتحقيق ذلك. وادعوا أن المعتصمين في رابعة تعرضوا لغسيل مخ وأنهم ضعفاء ويسيرون وراء قيادات سيكوباتية تسيء استخدام سلطتها عليهم. اقترح الطبيبان إلقاء القبض على قيادات الاعتصام والتفاوض مع باقي الأتباع. تسبب الفض العنيف لهذا الاعتصام في مقتل ما لا يقل عن 627 شخص.
بعد المجزرة ظهر عكاشه في التليفزيون ليؤكد أن قيادة الإخوان المسلمين مصابة بالضلالات، حتى أنهم أصبحوا يقتلون إخوانهم المصريين. وأضاف أن "القضاء عليهم" هو رغبة كل مصري. ولا أدري ما الذي كان يقصده بذلك تماما.
تحليل المجتمع الأوسع
لم يقتصر التصنيف النفسي على الشخصيات العامة أو المجموعات السياسية بل امتد ليشمل المجتمع الأوسع.
كثيرا ما يستخدم الأطباء النفسيون مصطلح "الشخصية المصرية"، بوصفها مجموعة محددة من السمات المشتركة بين المصريين. يعكس ذلك وجهة النظر الشخصية عما يجب أن يكون عليه "المواطن الصالح"، لكنه لا يستند إلى أية أدلة علمية تجريبية، كما أنه يستعدي كل من يشعرون أنهم مختلفون. وجهات النظر هذه كثيرا ما تتراوح بين الأبوية والشوفينية الوطنية والعنصرية الخفية، مثل مقولات إن المصريون يفتقدون إلى المثابرة والإصرار اللازمين لبناء البلد.
الجيش هو الاستثناء لذلك بالطبع. فتحت قيادة السيسي أصبح الجيش هو المؤسسة الوحيدة القادرة على إعادة المكانة لمصر. وكثيرا ما تمتد هذه الفكرة إلى نهايات عبثية- وقد تكون كارثية- مثل اقتراح عكاشه بضرورة تجنيد أطفال الشوارع في الجيش، أو اقتراح يحيى الرخاوي أخيرا بإرسال كل الأطفال من سن ثلاث سنوات إلى معسكرات الجيش لكي تتعلم الأمة النظام.
أما الأطباء الأكثر ميلا إلى الإخوان المسلمين فقد كان لهم أيضا اقتراحاتهم المستهترة. أحدهم طلب من مرسي في يوليو 2012 أن يتعامل مع "انهيار الأخلاق العامة" بتطبيق حد الحرابة على من يقطعون الطرق- أي قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف- وأضاف أنه لا يمكن تقويم النفس البشرية سوى عن طريق الردع.
فيم يستخدم الطب النفسي؟
الطب النفسي أحد فروع الطب المنوط به تشخيص وعلاج والوقاية من اضطرابات الصحة النفسية. وعلى الأطباء النفسيين أن يكونوا على علم بالعناصر البيولوجية والنفسية والاجتماعية للصحة العقلية والوجدانية. والأطباء يصفون الأدوية والأشكال الأخرى من العلاج مثل العلاج النفسي.
الطب النفسي ليس فرعا من فروع الفلسفة أو الأنثروبولوجيا أو علم الاجتماع. والطب النفسي لا علاقة له بإصدار الأحكام.
الإعلام يتحمل قدراً من المسئولية، بسبب تعطشه لتحليلات مثيرة للشخصيات العامة. لا يجوز للأطباء النفسيين التعليق على أفراد في اللقاءات الحوارية. هذا أمر غير أخلاقي. ومن الجهل أن نصدر تعميمات على جماعات من البشر أو مجتمعات بأكملها، خاصة في غياب أية أدلة تدعم هذه الادعاءات.
على الأطباء النفسيين أن يمتنعوا عن الاشتراك في الهجوم الشخصي على شخصيات سياسية. فالمشاركة في مثل هذه الدعاية تفقد المهنة احترامها في نظر الرأي العام.